ثم ذكر ما كان من شأن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولا يخفى فضله رضي الله تعالى عنه، ولا مشاهده العظيمة وفتوحاته، ولا بلاؤه في سبيل الله عز وجل، ومشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان مجاب الدعوة.
قال: (وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة، فكذب عليه رجل، فقال: [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فأصاب الرجل هذا البلاء كله، فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد] ).
وهذا له قصة صحيحة ثابتة، وذلك عندما شكي سعد رضي الله تعالى عنه، ودائماً أهل الوشاية وأهل الحقد لا يخلو منهم زمان، فـسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو بهذه الدرجة والمكانة من الفضل؛ ومع ذلك وشى به أقوام ممن لا خلاق لهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتعلمون قوة عمر رضي الله تعالى عنه في الحق، وشدة تحريه، فلا يمكن أن يرضى أن أحداً من ولاته يحتجب عن الرعية، أو لا يعدل بينهم، أو يفعل شيئاً من التهم التي تنسب إليهم، وقد اتهم عدد من ولاة عمر رضي الله تعالى عنه، وتظهر براءتهم جميعاً، وأنهم على خلاف ما يتهمون به، حتى أصبح من علامة تعديل الرجل، أو تبرئته من النفاق: أن يكون من ولاة عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأنه لم يثبت على أي منهم تهمة، وقد كان منهم سعد رضي الله تعالى عنه، وربما كان أجلهم، وأشرفهم، وأفضلهم قدراً، فكيف يتهم؟!
فأرسل إليه عمر رضي الله تعالى عنه، ثم وقف في المسجد يسأل الناس ويستشهدهم عن سعد رضي الله تعالى عنه، فقام هذا الرجل المفتون وغيره، فشهدوا عليه أنه لا يخرج مع السرية، ولا يعدل بالسوية، وكان من جملة ما اتهموه به أنه لا يحسن الصلاة، ولهذا كان يتعجب رضي الله تعالى عنه كما جاء في الصحيح فيقول: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة في الإسلام -أي: من أول الناس إسلاماً-، وقد غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرحت أشداقنا من ورق الشجر، وجعل يذكر سابقته وبلاءه وجهاده، وقال: والآن أصبحت بنو أسد تعذرني على الإسلام والصلاة! يعني أصبحت الأعراب الجفاة الذين لا سابقة لهم، ولا هجرة، ولا جهاد؛ ينتقدونني في صلاتي، وهذا من الابتلاء الذي تعرض له رضي الله تعالى عنه.
فقام هذا الرجل وشهد شهادة الزور هذه، فقال سعد : اللهم إن كان كاذباً.. أما إن كان صادقاً فقد قال ما عليه، ويجب على الإنسان أن يشهد شهادة الحق، (( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ))[البقرة:283]، فيشهد بالحق، وينكر المنكر، ولو كان على وال، أو أي إنسان، فلو أنه قال هذا بحق فلا شيء عليه.
وإنما قام هذا الرجل رياء وسمعة؛ حتى يقال: قام فلان من بني فلان وتكلم في سعد ، وأبلغ في القول، قال سعد : فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، نسأل الله العفو والعافية، فكان ما دعا الله به، فأعمى الله تعالى بصره، وأطال عمره، وهذا من سوء الخاتمة -نعوذ بالله- كما قال تعالى: (( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ))[آل عمران:178]، فطال عمره حتى عمي بصره، وعرضه الله تعالى للفتن، فكان يخرج ويتلقى الجواري في سكك البلد، ويغمز هذه، ويتعرض لهذه، أي: كما نسميه الآن المعاكسة، وهو في هذه السن: رجل أعمى، كبير السن، ويفعل هذا الفعل، فهذا أقبح ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية-، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد ؛ لأنه يعلم أنه إنما قام ذلك المقام، وشهد تلك الشهادة زوراً وبهتاناً ورياء، ولم تكن لوجه الله تبارك وتعالى، نسأل الله العفو والعافية.